مقالات

في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان – الملا صدرا

اعلم أنه اختلف آراء الحكماء في هذا العشق وماهيته وانه حسن أو قبيح محمود أو مذموم فمنهم من ذمه وذكر انه رذيلة وذكر مساويه وقال إنه من فعل البطالين والمعطلين ومنهم من قال إنه فضيلة نفسانية ومدحه وذكر محاسن أهله وشرف غايته ومنهم من لم يقف على ماهيته وعلله وأسباب معانيه وغايته ومنهم من زعم أنه مرض نفساني ومنهم من قال إنه جنون الهي.

والذي يدل عليه النظر الدقيق والمنهج الأنيق وملاحظة الأمور عن أسبابها الكلية ومباديها العالية وغاياتها الحكمية ان هذا العشق أعني الالتذاذ الشديد بحسن الصورة الجميلة والمحبة المفرطة لمن وجد فيه الشمائل اللطيفة وتناسب الأعضاء وجوده التركيب لما كان موجودا على نحو وجود الأمور الطبيعية في نفوس أكثر الأمم من غير تكلف وتصنع فهو لا محاله من جمله الأوضاع الإلهية التي يترتب عليها المصالح والحكم فلا بد ان يكون مستحسنا محمودا سيما وقد وقع من مباد فاضله لأجل غايات شريفة.

اما المبادي فلانا نجد أكثر نفوس الأمم التي لها تعليم العلوم والصنائع اللطيفة والآداب والرياضيات مثل أهل الفارس وأهل العراق وأهل الشام والروم وكل قوم فيهم العلوم الدقيقة والصنائع اللطيفة والآداب الحسنة غير خاليه عن هذا العشق اللطيف الذي منشأه استحسان شمائل المحبوب ونحن لم نجد أحدا ممن له قلب لطيف وطبع دقيق وذهن صاف ونفس رحيمة خاليا عن هذه المحبة في أوقات عمره.

ولكن وجدنا سائر النفوس الغليظة والقلوب القاسية والطبائع الجافية من الأكراد والاعراب والترك والزنج خاليه عن هذا النوع من المحبة وانما اقتصر أكثرهم على محبه الرجال للنساء ومحبة النساء للرجال طلبا للنكاح والسفاد كما في طباع سائر الحيوانات المرتكزة فيها حب الازدواج والسفاد والغرض منها في الطبيعة ابقاء النسل وحفظ الصور في هيولياتها بالجنس والنوع إذ كانت الاشخاص دائمة السيلان والاستحالة.

واما الغاية في هذا العشق الموجود في الظرفاء وذوي لطافة الطبع فلما ترتب عليه من تأديب الغلمان وتربيه الصبيان وتهذيبهم وتعليمهم العلوم الجزئية كالنحو واللغة والبيان والهندسة وغيرها والصنائع الدقيقة والآداب الحميدة والاشعار اللطيفة الموزونة والنغمات الطيبة وتعليمهم القصص والاخبار والحكايات الغريبة والأحاديث المروية إلى غير ذلك من الكمالات النفسانية فان الأطفال والصبيان إذا استغنوا عن تربيه الاباء والأمهات فهم بعد محتاجون إلى تعليم الاستادين والمعلمين وحسن توجههم والتفاتهم إليهم بنظر الاشفاق والتعطف فمن أحل ذلك أوجدت العناية الربانية في نفوس الرجال البالغين رغبه في الصبيان وتعشقا ومحبه للغلمان الحسان الوجوه ليكون ذلك داعيا لهم إلى تأديبهم وتهذيبهم وتكميل نفوسهم الناقصة وتبليغهم إلى الغايات المقصودة في ايجاد نفوسهم والا لما خلق الله هذه الرغبة والمحبة في أكثر الظرفاء والعلماء عبثا وهباء فلا بد في ارتكاز هذا العشق النفساني في النفوس اللطيفة والقلوب الرقيقة غير القاسية ولا الجافية من فائدة حكمية وغاية صحيحه.

ونحن نشاهد ترتب هذه الغايات التي ذكرناها فلا محاله يكون وجود هذا العشق في الانسان معدودا من جمله الفضائل والمحسنات لا من جمله الرذائل والسيئات و لعمري ان هذا العشق يترك النفس فارغة عن جميع الهموم الدنياوية الا هم واحد فمن حيث يجعل الهموم هما واحدا هو الاشتياق إلى رؤية جمال انساني فيه كثر من آثار جمال الله وجلاله حيث أشار اليه بقوله لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم وقوله ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين سواء كان المراد من الخلق الاخر الصور الظاهرة الكاملة أو النفس الناطقة لأن الظاهر عنوان الباطن والصورة مثال الحقيقة والبدن بما فيه مطابق للنفس وصفاتها والمجاز قنطرة الحقيقة.

ولاجل ذلك هذا العشق النفساني للشخص الانساني إذا لم يكن مبدأه افراط الشهوة الحيوانية بل استحسان شمائل المعشوق وجوده تركيبه واعتدال مزاجه وحسن أخلاقه وتناسب حركاته وافعاله وغنجه ودلاله معدود من جمله الفضائل و هو يرقق القلب ويذكى الذهن وينبه النفس على ادراك الأمور الشريفة ولاجل ذلك امر المشائخ مريديهم في الابتداء بالعشق وقيل العشق العفيف أو في سبب في تلطيف النفس وتنوير القلب وفي الاخبار ان الله جميل يحب الجمال وقيل من عشق وعف وكتم ومات مات شهيدا.

وتفصيل المقام ان العشق الانساني ينقسم إلى حقيقي ومجازي والعشق الحقيقي هو محبه الله وصفاته وافعاله من حيث هي افعاله والمجازي ينقسم إلى نفساني والى حيواني والنفساني هو الذي يكون مبدأه مشاكله نفس العاشق المعشوق في الجوهر ويكون أكثر اعجابه بشمائل المعشوق لأنها آثار صادره عن نفسه والحيواني هو الذي يكون مبدأه شهوة بدنية وطلب لذه بهيمية ويكون أكثر اعجاب العاشق بظاهر المعشوق ولونه واشكال أعضائه لأنها أمور بدنية والأول مما يقتضيه لطافة النفس وصفاتها والثاني مما يقتضيه النفس الامارة ويكون في الأكثر مقارنا للفجور والحرص عليه وفيه استخدام القوة الحيوانية للقوة الناطقة بخلاف الأول فإنه يجعل النفس لينه شيقة ذات وجد وحزن وبكاء ورقه قلب وفكر كأنها تطلب شيئا باطنيا مختفيا عن الحواس فتنقطع عن الشواغل الدنيوية وتعرض عما سوى معشوقها جاعله جميع الهموم هما واحدا فلأجل ذلك يكون الاقبال على المعشوق الحقيقي أسهل على صاحبه من غيره فإنه لا يحتاج إلى الانقطاع عن أشياء كثيره بل يرغب عن واحد إلى واحد.

لكن الذي يجب التنبيه عليه في هذا المقام ان هذا العشق وإن كان معدودا من جمله الفضائل الا انه من الفضائل التي يتوسط الموصوف بها بين العقل المفارق المحض وبين النفس الحيوانية ومثل هذا الفضائل لا تكون محموده شريفة على الاطلاق في كل وقت وعلى كل حال من الأحوال ومن كل أحد من الناس بل ينبغي استعمال هذه المحبة في أواسط السلوك العرفاني وفي حال ترقيق النفس وتنبيهها عن نوم الغفلة ورقدة الطبيعة واخراجها عن بحر الشهوات الحيوانية واما عند استكمال النفس بالعلوم الإلهية وصيرورتها عقلا بالفعل محيطا بالعلوم الكلية ذا ملكه الاتصال بعالم القدس فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصور المحسنة اللخمية والشمائل اللطيفة البشرية لان مقامها صار ارفع من هذا المقام ولهذا قيل المجاز قنطرة الحقيقة وإذا وقع العبور من القنطرة إلى عالم الحقيقة فالرجوع إلى ما وقع العبور منه تارة أخرى يكون قبيحا معدودا من الرذائل ولا يبعد ان يكون اختلاف الأوائل في مدح العشق وذمه من هذا السبب الذي ذكر ناه أو من جهة انه يشتبه العشق العفيف النفساني الذي منشاؤه لطافة النفس واستحسانها لتناسب الأعضاء واعتدال المزاج وحسن الاشكال وجوده التركيب بالشهوة البهيمية التي تنشأها افراد القوة الشهوانية.

واما الذين ذهبوا إلى أن هذا العشق من فعل البطالين الفارغي الهمم فلانهم لا خبره لهم بالأمور الخفية والاسرار اللطيفة ولا يعرفون من الأمور الا ما تجلى للحواس وظهر للمشاعر الظاهرة ولم يعلموا ان الله تعالى لا يخلق شيئا في جبله النفوس الا لحكمه جليله وغاية عظيمه. واما الذين قالوا إنه مرض نفساني أو قالوا إنه جنون الهي فإنما قالوا ذلك من اجل انهم رأوا ما يعرض للعشاق من سهر الليل ونحول البدن وذبول الجسد وتواتر النبض وغور العيون والأنفاس الصعداء مثل ما يعرض للمرضى فظنوا أن مبدأه فساد المزاج واستيلاء المرة السوداء وليس كذلك بل الامر بالعكس فان تلك الحالات ابتدأت من النفس أولا ثم أثرت في البدن فان من كان دائم الفكر والتأمل في امر باطني كثير الاهتمام والاستغراق فيه انصرفت القوى البدنية إلى جانب الدماغ وينبعث من كثره الحركات الدماغية حراره شديده تحرق الاخلاط الرطبة وتفنى الكيموسات الصالحة فيستولى اليبس والجفاف على الأعضاء ويستحيل الدم إلى السوداء وربما يتولد منه الماليخوليا.

وكذا الذين زعموا انه جنون الهي فإنما قالوا من اجل انهم لم يجدوا دواء ا يعالجون ولا شربه يسقونها فيبرؤن مما هم فيه من المحنة والبلوى الا الدعاء لله بالصلاة والصدقة والرقى من الرهبانيين والكهنة وهكذا كان دأب الحكماء والأطباء اليونانيين فكانوا إذا أعياهم مداواة مريض أو معالجة عليل أو يئسوا منه حملوه إلى هيكل عبادتهم وأمروا بالصلاة والصدقة وقربوا قربانا وسئلوا أهل دعائهم وأحبارهم ورهبانهم ان يدعوا الله بالشفاء فإذا برى المريض سموا ذلك طبا إلهيا والمرض جنونا إلهيا.

ومنهم من قال إن العشق هواء غالب في النفس نحو طبع مشاكل في الجسد أو نحو صوره مماثله في الجنس.

ومنهم من قال منشأه موافقه الطالع عند الولادة فكل شخصين اتفقا في الطالع ودرجته أو كان صاحب الطالعين كوكب واحد أو يكون البرجان متفقين في بعض الأحوال والانظار كالمثلثات أو ما شاكل ذلك مما عرفه المنجمون وقع بينهما التعاشق ومنهم من قال إن العشق هو افراط الشوق إلى الاتحاد وهذا القول وإن كان حسنا الا انه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل لان هذا الاتحاد من اي ضروب الاتحاد فان الاتحاد قد يكون بين الجسمين وذلك بالامتزاج والاختلاط وليس ذلك يتصور في حق النفوس ثم لو فرض وقوع الاتصال بين بدني العاشق والمعشوق في حاله الغفلة والذهول أو النوم فعلم يقينا ان بذلك لم يحصل المقصود لان العشق كما مر من صفات النفوس لا من صفات الاجرام بل الذي يتصور ويصح من معنى الاتحاد هو الذي بيناه في مباحث العقل والمعقول من اتحاد النفس العاقلة بصوره العقل بالفعل واتحاد النفس الحساسة بصوره المحسوس بالفعل فعلى هذا المعنى يصح صيرورة النفس العاشقة لشخص متحده بصوره معشوقها وذلك بعد تكرر المشاهدات وتوارد الانظار وشده الفكر والذكر في اشكاله وشمائله حتى يصير متمثلا صورته حاضره متدرعة في ذات العاشق وهذا مما أوضحنا سبيله وحققنا طريقه بحيث لم يبق لاحد من الأزكياء مجال الانكار فيه.

وقد وقع في حكايات العشاق ما يدل على ذلك كما روى أن مجنون العامري كان في بعض الاحانين مستغرقا في العشق بحيث جاءت حبيبته ونادته يا مجنون انا ليلى فما التفت إليها وقال لي عنك غنى بعشقك فان العشق بالحقيقة هو الصورة الحاصلة وهي المعشوقة بالذات لا الأمر الخارجي وهو ذو الصورة لا بالعرض كما أن المعلوم بالذات هو نفس الصورة العلمية لا ما خرج عن التصور وإذا تبين وصح اتحاد العاقل بصوره المعقول واتحاد الجوهر الحاس بصوره المحسوس كل ذلك عند الاستحضار الشديد والمشاهدة القوية كما سبق فقد صح اتحاد نفس العاشق بصوره معشوقه بحيث لم يفتقر بعد ذلك إلى حضور جسمه والاستفادة من شخصه كما قال شاعر

انا من أهوى ومن أهوى انا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

ثم لا يخفى ان الاتحاد بين الشيئين لا يتصور الا كما حققنا وذلك من خاصية الأمور الروحانية والأحوال النفسانية واما الأجسام والجسمانيات فلا يمكن فيها الاتحاد بوجه بل المجاورة والممازجة والمماسة لا غير بل التحقيق ان لا يوجد وصال في هذا العالم ولا يصل ذات إلى ذات في هذه النشأة ابدا وذلك من جهتين.

إحديهما ان الجسم الواحد المتصل إذا حقق امره علم أنه مشوب بالغيبة والفقد لان كل جزء منه مفقود عن صاحبه مفارق عنه فهذا الاتصال بين اجزائه عين الانفصال الا انه لما لم يدخل بين تلك الأجزاء جسم مبائن ولا فضاء خال ولا حدث سطح في خلالها قيل إنها متصله واحده وليست وحدتها وحده خالصه عن الكثرة فإذا كان حال الجسم في حد ذاته كذلك من عدم الحضور والوحدة فكيف يتحد به شئ آخر أو يقع الوصال بينه وبين شئ.

والأخرى انه مع قطع النظر عما ذكرنا لا يمكن الوصلة بين الجسمين الا بنحو تلاقى السطحين منهما والسطح خارج عن حقيقة الجسم وذاته فاذن لا يمكن وصول شئ من المحب إلى ذات الجسم الذي للمعشوق لان ذلك الشئ اما نفسه أو جسمه أو عرض من عوارض نفسه أو بدنه والثالث محال لاستحالة انتقال العرض وكذا الثاني لاستحالة التداخل بين الجسمين والتلاقي بالأطراف والنهايات لا يشفى عليلا طالب الوصال ولا يروى غليله واما الأول فهو أيضا محال لان نفسا من النفوس لو فرض اتصالها في ذاتها ببدن لكانت نفسا لها فيلزم حينئذ ان يصير بدن واحد ذا نفسين وهو ممتنع ولاجل ذلك ان العاشق إذا اتفق له ما كانت غاية متمناه وهو الدنو من معشوقه والحضور في مجلس صحبته معه فإذا حصل له هذا المتمنى يدعى فوق ذلك وهو تمنى الخلوة والمصاحبة معه من غير حضور أحد فإذا سهل ذلك وخلى المجلس عن الاغيار تمنى المعانقة والتقبيل فان تيسر ذلك تمنى الدخول في لحاف واحد والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما ينبغي ومع ذلك كله الشوق بحاله وحرقه النفس كما كانت بل ازداد الشوق والاضطراب كما قال قائلهم.

أعانقها والنفس بعد مشوقة

إليها وهل بعد العناق تداني

والثم فاهاكى تزول حرارتي

فيزداد ما القى من الهيجان

كان فؤادي ليس يشفى غليله

سوى ان يرى الروحان يتحدان

والسبب اللمي في ذلك ان المحبوب في الحقيقة ليس هو العظم ولا اللحم ولا شئ من البدن بل ولا يوجد في عالم الأجسام ما تشتاقه النفس وتهواه بل صوره روحانية موجوده في غير هذا العالم. (1)

(1) الملا صدرا، ”الأسفار الأربعة“، ج 7، ص 171 الی 179، دار احياء التراث العربی، بيروت.

 

الفلاسفة والصوفیه، وحب الأبناء الظرفاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button