مقالات

اختلاط معارف الشيعة بالأذواق الفلسفية و العرفانية – شیخ محمد جواد الخراسانی

ثمّ أعلم، أنّ «أهل الفلسفة و العرفان» ممّن يتظاهر بالتشيع و يسمّى عند عامّة النّاس بالشّيعة، ادخلوا اذواقهم الفلسفيّة و العرفانيّة في معارف الشّيعة، و خلطوها بها خلطا فلا يعرفها إلّا الخبير، و لا يميّزها إلّا البصير. فاتّخذتها الشيعة منهم، و صيّرتها من جملة عقائدهم، جهلا منهم بحقيقة الحال، و ظنّا منهم بوحدة المقال.

سبب هذا الاختلاط و الامتزاج

و ذلك لأنّ هؤلاء الطائفة من بدء حدوثهم إلى الغاية، لم يكونوا متميّزين عن الشّيعة كسائر الفرق من الزّيدية و الفطحيّة و الواقفيّة و غيرهم حتّى يحترز منهم؛ بل كانوا مختلطين بهم، متوافقين لهم في الفروع و متظاهرين معهم بالرّسوم. فحسن ظنّ الشّيعة بهم و اكتفوا بذلك منهم، زعما أنّ التشيّع بمحض ملازمة الفروع، و مراقبة الرسوم. فبذلك خلطوا أنفسهم الشيعة، خلطا لا يخطر ببال أهل الظّاهر غير الاتّحاد.

إذ هم لا يعرفون أنّ الوحدة في الفروع و الرسوم، غير الوحدة في «الاعتقاد». فأخذوا منهم ما أدخلوه بحسن الظنّ بهم من غير انتقاد؛ سيّما أنّهم اختلقوا في جميع المآرب، حتّى الشئون و المناصب. فاختلطوا بهم في المحافل و الجماعات و المدارسة و التدريس، و التأليف و التصنيف في الفقه و الحديث و التفسير و غيرها، و القضاء و الإفتاء و رئاسة العامّة، و الوعظ و التذكير و المناظرة لأهل الخلاف و الشّقاق؛ بحيث لا يبقى مجال توهّم الافتراق. خصوصا مع ملازمتهم للزهد في الحلال و التّقوى الظاهريّة التي تشهد بحسن الحال.

فلمّا تمكّن أهل الفلسفة في نفوس الشّيعة و وقعوا موقع القبول، و حسبت الشّيعة أنّهم موافقوهم في الفروع و الأصول، دلّسوا على الضعفاء «ترويجا لأذواقهم و تحكيما لعقائدهم، و صدّا لهم عن مراجعة أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ لئلّا يظهر لهم خلاف ما أسّسوا أو شكّ فيما دسّسوا» بأمور، أوجبت مزيد الاعتماد عليهم، و مسارعة طلبة العلم إليهم. فاستبق إليهم قوم لم يستحكموا العلم و لم يستضيئوا بنور الهدى، و لم يلجئوا إلى ركن وثيق. فدرسوا عندهم و تعلّموا منهم، حتّى اشرب اذواقهم تلك الأذواق، و رسخت في قلوبهم رسوخ الماء في الأجسام الرّقاق.

فحسبوا أنّها افاضة و اشراق، فنشئوا عليها نشأ الشجر في الطين؛ فزعموا أنّها هي الدّين.
ثمّ برزوا في الفنّ فأخذوا في التصنيف، فنمى اسمهم و سما ذكرهم، حتّى عرفوا برجال العلم و التّأليف. ثمّ خاضوا في التّدقيق بنقل الأقوال و ضروب الاستدلال، حتّى وصفوا بأهل التحقيق. فالبستهم الرّئاسة لباسها، و أحكمت لهم اساسها، فوطأت الرّجال أعقابهم، و زاحم النّاس أبوابهم، فاتّقى أهل البصيرة خلافهم، إذ صاروا كبراء القوم و أشرافهم؛ فإنّ مخالفة الأكابر من أكبر الذّنوب عند أهل الظاهر.

كذلك دسّت الأذواق الفلسفيّة و العرفانيّة في معارف الشيعة الإمامية؛ فجرت و سرت في عامّهم و خاصّهم، إلّا القليل ممّن عصمه اللّه، إلى أن آل الأمر في هذا الزمان إلى أنّ الإسلام و الإيمان لا يعرفان إلّا بالفلسفة و العرفان. و هيهات! إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، و إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً، و يقولون ما لا يعلمون.

و تلك الأمور هذه:

الأوّل: دعوى أنّ حقيقة المعارف الإسلاميّة لا تنال إلّا بالفلسفة و العرفان، و كذلك معنى كثير من الأحاديث لا يعرف إلّا بهما. و هذه دعوى يدّعيها كلّ فريق، و الجميع كما قيل:

و كلّ يدّعي وصلا بليلى و ليلى لا تقرّ بذا و ذاكا

و ذلك لأنّهم يزعمون كما هم يزعمون، أنّهم على شي ء، وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. و هيهات! ليست الحقيقة إلّا في «بيوت أهل الوحي»، و ليست الحقّ إلّا ما صدر عن أهل تلك البيوت. و ما الّذي يدّعونه إلّا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً…

كلّا! فلا المعرفة التي أسّسوها و نسجوا عليها معرفة اسلاميّة؛ بل هي فضول و زخارف سمّوها أصولا و معارف. و لا فهم الحديث متوقّف على تلك المنسوجات و مبنيّ عليها، كما انّ المعنى الّذي يفسّرون به بعض الأحاديث على مذاقهم ليس بمعناه؛ بل هو تطبيق من غير انطباق، و تأويل على الأذواق، لا تفسير للمعنى المراد من الحاقّ. و إنّما الّذي يهدي إلى المعاني المرادة، نفس الأحاديث الواردة، فإنّ بعضها يفسّر بعضا، و لكنّ الفهم و التفريع من تأييد اللّه.

الثاني: تكبير فنّهم و أكابرهم بشوامخ الاسامي و الألقاب، و المبالغة و الاطراء في المدح و الوصف العجاب. فمن تكبيرهم الفنّ، أنّ أهل الفلسفة، سمّوا فلسفتهم ب «الحكمة»، ثمّ فسّروها بأنّها: «العلم بحقايق الأشياء على ما هي عليها»، و زاد قوم عليه «على حسب الطاقة البشريّة»، و قولهم: «أنّه لو لا الحكمة لم يستقم أمر الدّين، و انّها موهبة إلهيّة يتطوّل بها على من يشاء»، و غير ذلك ممّا لسنا بصدد استقصائه.

ثمّ اوّلوا و نزّلوا عليها الآيات، مثل قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ، و قوله: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، و كذلك من الأخبار نظائرها.

فمن ذا لا تعجبه الفلسفة بعد سماع ذلك!؟ و من ذا يرغب عن مثل ذلك؟ فأمّا العامّي، فيغترّ به من غير نكير، و امّا القاصر من أهل العلم و طلبته، فإنّه أيضا يعجبه هذا الثناء؛ لأنّه غير خبير، و بفساد الدّعوى غير بصير. فلذلك ترى الطالب القاصر، يسارع في ابتداء امره إلى تعليم الفلسفة، اغترارا بهذا الثناء و الاطراء. فيحسبها أنّها فضل كبير لا يسعه الجهل بهذا الأمر الخطير، أو واجب مهمّ لا عذر له في التقصير؛ فيتعلّم الفنّ من مدّعيه و معتقديه. فيخوض فيه خوض التّائه في بيداء التّيه، تقليدا بحسن ظنّه بمن يعلّمه و يربّيه. فيرسخ في قلبه شيئا فشيئا حتّى يتعوّد عليه انسه، و تركن إليه نفسه و ينطبع عليه ذوقه و ينقلب إليه شوقه، فيتدرّب له اطمئنان لا يدخله ريبة، فيتّخذه دينا يدين به ربّه.

بدء حدوث الفلسفة في الاسلام

و لكن هيهات ثمّ هيهات! ليست الاطراءات و التكبيرات إلّا الدعاوى و التأويلات. و يكفي في كذب الجميع و بطلانها، أنّ الفلسفة التي سمّوها بالحكمة، قد حدثت في الاسلام بعد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في أثناء القرن الثاني، و صارت إليهم من «اليونان»، و قد قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، و مثله في آيتين أيضا.

فقد كان من وظائف النّبيّ (صل‌الله‌عليه‌‌وآله) تعليم الحكمة للأمّة. فان كان (صل‌الله‌عليه‌و‌آله) علّمهم، فالحكمة غير هذه الفلسفة الجائية من اليونان، و إن لم يعلّمهم، فقد قصّر في
الوظيفة؛ و قد خلت الأمّة عن الحكمة بزمان حتى منّ اللّه عليهم بأهل اليونان.

و اذن، لم يكن في بعث النّبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) امتنان؛ على أنّ الفهيم البصير ربّما يفهم من قوله تعالى: وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، انّ ما كان من قبل الإسلام بين الأنام، ممّا لم يكن من وحي و إلهام، كلّه ضلال.

و من تكبير «الصوفيّة» فنّهم، أنّهم سمّوا محصول التّصوف ب «العرفان»؛ ثمّ بالغوا في وصفه و أطرءوا في شأنه بأسنى شأن؛ فيغترّ به الجاهل و القاصر و الغافل، فيحسبه عرفانا في الحقيقة، فيطلبه من أهل الطريقة. إذ العرفان من أكبر المواهب و ممّا لا ينبغي أن يرغب عنه راغب، أو لا يطلبه طالب، لو لم يكن طلبه بواجب. و هو أيضا كالحكمة، محض التّسمية الّتي لا واقع لها. بل العرفان، ليس إلّا محصول الفلسفة أو هو عينها؛ و الفنّ واحد، و الاختلاف في الطريق، و دعوى أنّ نتيجتها «علم» و نتيجته «شهود».

بدء حدوث التصوف في الاسلام

و «التّصوّف» أيضا كالفلسفة حادث في الاسلام بعد مضيّ أعوام، مقارنا لحدوث الفلسفة أو قريبا منها. فيرد عليه ما أوردنا عليها من تقصير النّبي (صل‌الله‌علیه‌وآله‌) في العرفان، فليس له على الأمّة امتنان أو ليس هذا العرفان بعرفان، و لا طريقه الموصل إليه، طريق النّبي المبعوث بالتوحيد و الإيمان.

و من تكبير الفريقين أكابر فنّهم، قولهم: «الحكيم الإلهي، حكماء الإسلام، عرفاء الإسلام، الحكماء المتألّهون، العرفاء الشامخون، الأكابر، الأعاظم، المشايخ الكبار، المحقّقون، أهل التحقيق، أهل اللّه، أهل الولاية، أهل الحقيقة، أهل الكشف، شمس الدّين، بدر الدّين، صدر الدّين» و أمثال ذلك.

و هذا النّوع من التكبير و التجليل، لا يختصّ بهؤلاء، بل ذلك دعوى كلّ محقّ و مبطل، و ان كان المبطل يهتمّ بذلك أكثر ليروّج به باطله.
ثمّ لا يخفى، إنّا إنّما ننكر من هذه التكبيرات ما يريدون بها من التلبيس و يدّعون انّهم أكابر الدّين، و إلّا فنحن معترفون بأنّهم أكابر الفنّ؛ و لكن ليس كلّ كبير في كلّ فنّ كبيرا في الدّين. نعم، هم كبراء لهم في دينهم و فيما يعتقدون.

الثالث: تحقير من خالفهم و أنكر عليهم بالتجهيل، كائنا من كان، و ان كان من اجلّة من يستحق التبجيل و التجليل. فيرمون قاطبة الفقهاء و أهل الفضل و التحقيق في الفرق و الفنون، بأنّهم: جاهلون، قاصرون عن درك الدقائق أو الوصول الى صقع الحقائق، بل قاصرون عن فهم كلامنا، فكيف عن تحمّل مقامنا!؟ و هم يعمّمون بهذا الطعن كلّ من خالفهم من غير استثناء و لا استحياء، حتّى من كان منهم، فاستبصر، فضلا عمّن كان بصيرا منهم أو ابصر. و هذا من خواصّ هذين الفريقين، اذ ليس لهم عن الحقّ جواب، فيعارضون الخصوم بالسباب، و هذه الرذيلة ممّن يدّعي الحكمة و العرفان عجاب! و أمّا سائر الفرق، فإنّهم و ان كانوا على غير الحقّ، انّما يقابلون خصمهم بالجواب، و ان كان غير صواب. و لكن الحكيم و العارف، اعرف بالسياسة في دفع الخصوم و التدبير في افتتان الناس بما يدعونه من العلوم، فإنّه لا يؤثر شي ء في التفتين و وهن الخصم، مثل ما يؤثّر رميه بالجهل و قصور الفهم، و انّه ليس بأهل، أو ليس له من هذا السهم.

الرابع: إنّ الحكيم يقول: «إنّ معرفة الأصول من شأن العقل و مقام العقول. » و العارف يقول: «إنّها مقام الشهود و من شأن القلب المزكى عن التعيّنات و الحدود. » فالمعرفة إذن، أمر لا يتقوّم بالتّقليد، بل لا بدّ فيها إمّا من التحقيق أو التجريد، و بناؤها على الأحاديث ليس إلّا تقليدا، اذ ليست إلّا تعبّدا و تقييدا.

و بهذا التمهيد، يجلبون النّاس الى قبول ما يلفقون و يصدّونهم عن السّبيل و يحسبون أنهم مهتدون. و هذا من أتمّ مصائدهم و شبكاتهم، لاصطياد الناس الى اوهامهم و شبهاتهم. و لكن هذه الشبكة أوهن من بيت العنكبوت، لا يصطاد بها الّا ضعاف صغار الحوت. و امّا المطّلع بأصول المذاهب و اخباره، فهو يعلم أنّ هذا القول مكيدة من ختّاره.

و الجواب عنها، مضافا الى ما تقرأ في هذا الكتاب (من انهدام بنيان هذين الفنين باساسهما، و أنّه لا اصل لهما إلّا كسراب و انّ اساسهما مبنيّ على الفرض و الخيال) انّ العرفان على فرض صحته بزعمهم، ليس له اساس غير اساس الفلسفة؛ بل هما شي ء واحد. و الفرق، إنّ الفلسفة مقام العلم و التصوّر، و العرفان بزعم أهله مقام الإيقان و الشهود. و معلوم أنّ مقام التصوّر قبل مقام المعاينة، و مقام الاثبات ثبوتا قبل مقام الإثبات شهودا. فلا يمكن طلب الشّهود من دون تصوّر المقصود، و لا السعي في طلب شي ء قبل استحضاره في التصوّر.

فإذن، التحقيق المخرج عن التقليد بزعم الفريقين في البداية، منحصر بالعقل؛ إلّا أن العارف يدّعي بعد ذلك في النّهاية، الخروج من العقل و النقل، فيرى الحكيم متوقّفا في العقل و مقلّدا للعقل و البرهان، و يرى نفسه خارجا عن كلّ تقليد بالعيان. و عليه، فليس لنا من العارف جواب آخر في مقام الاثبات. و الّذي يدّعيه بعد الإثبات، لا ينظر إليه إلّا بعد الفراغ عنه، و «دون اثباته خرط القتاد»

فاعلم في الجواب، أنّ كذب هذه المكيدة و التلبيس، من أبين المبان لمن طالع «اخبار أهل البيت (عليهم السّلام) في التوحيد و العرفان».
فمن يطالعها، يظهر له أنّ هذه النّسبة كذب و بهتان؛ فانّهم (عليهم السّلام) لم يتكلّموا في ذلك إلّا بالعقل و البرهان. و لعمري! إنّ هذا من سوء الظنّ بمن اصطفاه اللّه على أهل العقول، ليكونوا هداة لهم إلى السبل، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ؛ كيلا يعملوا بالقياس،فيضلّوا بغير علم و يضلّوا النّاس. فاذا هم على خلاف ذلك، يدعون العقول الى التّعبد بالقبول من غير حجّة، و يطلبون منهم التسليم و الاقتداء من غير تبيين محجّة. كلّا! ما هكذا الظنّ به و لا بهم.

و لكن المخالفين لهم و الصادّين عنهم سوّلت لهم أنفسهم، فصنعوا مثل هذه المكيدة، ليستدرجوا الناس إلى فساد العقيدة. اذ ليست عامّة الناس و لا خاصّتهم في ابتداء أمرهم، مطّلعة على أحاديث آل الرّسول (عليهم السّلام) في المعارف و الأصول؛ فيقبلون منهم تقليدا من غير تحقيق، أنّ الرّجوع إلى الحديث في التوحيد يكون من التقليد. أو ليس يسأل عنهم كيف صار قبول قول ارسطو و افلاطون و الفارابي و الغزالي و جنيد و بايزيد و غيرهم، من التحقيق دون التقليد، و قبول قول الرسول و آل الرّسول (سلام اللّه عليهم أجمعين) من التقليد في الأصول؟! تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى.

فهل لهم في ذلك جواب غير أن يقولوا: إنّ قبول قول هؤلاء، ليس من باب الاتّكاء على المنقول، و لا الاعتماد على القائل في القبول؛ بل
من باب أنّهم تكلّموا بالعقول، فالاعتماد إذن على العقول، لا على شخص القائل و لا المعقول؟
فنحن أيضا نقول بمثل ذلك: إنّا لا نعتمد على الأحاديث في الأصول، بما أنّها من آل الرّسول (عليهم السّلام)، كاعتمادنا عليها في الفروع، بل بما أنّها مبنيّة على العقول. و ذلك، لأنّ الفروع ممّا لا تصل إلى وجهها و حكمها العقول بالاستقلال، «انّ دين اللّه لا يصاب بالعقول»، و ليس على اللّه بيان الوجه و الاستدلال، بل على الناس القبول بعد الإيمان و معرفة الرّسول (صلّى اللّه عليه و آله)، فلا مجال فيها إلّا التعبّد و التسليم.

و امّا الأصول، فتصديق اجمالها مقصور على العقول، و لا يمكن جبر العقل بالقبول قبل وضوحه لديه و ثبوته عليه؛ و ادراك تفصيلها عندنا، موقوف على ارشاد الرسول و آل الرّسول (عليهم السّلام) بحجّة واضحة، يستنكف العقل عن النكول. و ليس للعقل الاستقلال بنفسه في مقام التفصيل، لعدم احاطته التّامّة، و لو تكلّف بالدّليل.

فلو تكلّف فيما ليس من حدّه، لم يكن جهده إلّا في تضليل. و لذلك ترى الفلاسفة يناقض بعضهم بعضا في هذا الباب و غيره؛ و كلّ يدّعي العقل و البرهان، و هذا شاهد جلّي على خطأ العقل و الفكر في ادراك الأشياء تفصيلا بحقائقها، لو لا ارشاد بارئها ايّاه. سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا.

و إنّي لم أرد بتصنيف هذا الكتاب إلّا نشر معارف الأئمّة (عليهم السّلام) و ظهور حقانيتها على أولى الألباب. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً. و من شاء فليمدح و من شاء فليقدح، لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.

عليك بالتأمل في هذه المقدمة! فانّها تهدي إلى وجه الإعراض عن معارف الائمّة (عليهم السّلام)، و وجه اختلاط غيرها بها و انتشار غيرها بين الشيعة دونها لتظفر بذلك على حقيقة خفيّة مذهلة.

المصدر: قبسات من کتاب «هداية الامة الى معارف الائمة علیهم السّلام» للشیخ محمد جواد الخراسانی (رحمه‌الله)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button